الوثيقة الختامية - مؤتمر المسيحيين العرب الاول

الوثيقة الختامية - مؤتمر المسيحيين العرب الاول
السبت 23 نوفمبر, 2019

 باريس،

أولاً

1- في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، انعقد في باريس (فندق ميريديان) "مؤتمر المسيحيين العرب الاول)، بمشاركة مائة شخصية ثقافية وأكاديمية واجتماعية وسياسية واعلامية، من مختلف البلدان العربية، إلى خبراء في مجال الوساطة والحوار، وبحضور ممثّلين عن حاضرة الفاتيكان ومركز الملك عبدالله لحوار الثقافات في النمسا.

2- ناقش المؤتمرون، في جلسةٍ عامة وثلاث جلسات متخصصة، إشكاليات الوجود المسيحي في المنطقة العربية كما ظهّرتها أحداث السنوات الأخيرة، لا سيما بإزاء ثلاث ظاهرات/مشكلات:

  • ظاهرة التطرّف والعنف الارهاب، على خلفية عداوات فئوية متبادلة، وبخاصّةٍ ما كان منها محمولاً على عقائدياتٍ مؤدلجة ومسيّسة، أو محمولاً على نزعاتٍ سلطوية افتراسية في مواقع الدولة، الأمر الذي أصاب جميع المكوّنات الأهلية والبُنى المجتمعية في المنطقة العربية إصاباتٍ بليغة، بما في ذلك المكوّن المسيحي وسائر المكوّنات المنظور اليها بوصفها "أقلّياتٍ عددية".
  • أزمة الدولة الوطنية والاندماج الوطني في المنطقة العربية، بلحاظ التعددية المجتمعية وانكشافها على أجنداتٍ إقليمية ودولية متصارعة في المنطقة وعليها. وفي هذا الصدد تتقدّم قضيتان أساسيتان: الاولى حماية الدولة الوطنية، بمواصفات الدولة السيّدة الحرة المستقلّة، المدنية والديموقراطية، والمحصّنة بعقدٍ وطني دستورياً، وموثّقٍ بالتزام الشرعة العالمية لحقوق الانسان. والقضية الثانية هي حماية نظام المصلحة العربية المشتركة، في إطار الانتماء إلى رابطة العروبة، وبمواجهة أنظمة المصالح الاقليمية المتزاحمة على ما اعتبرته "تركة الرجل العربي المريض".
  • خيارات المسيحيين في المنطقة العربية بين أطروحتين هما الابرز في الآونة الأخيرة: الأولى، أطروحة "الانطواء على الذات الطائفية، وتحصينُها بتحالفِ أقلياتٍ في المنطقة بوجه الأكثرية العربية السنّية، بالإضافة إلى التماسِ حماياتٍ خارجية"؛ والثانية،هي أطروحةُ "اندماج المسيحيين في بلدانهم ومنطقتهم، وحَملِ قضاياها الجامعة العادلة، بالشراكة المتكافئة المتكافلة المتضامنة مع مواطنيهم، بمعزلٍ عن مفهوم أكثرياتٍ وأقلّيات عددية، وعلى قاعدة: إما أن ننهض معاً وجميعاً، أو نسقطِ فِرادى متفرّقين.

3- وبخصوص المشاركين في هذا المؤتمر وموضوعه وتوقيته، يهم اللجنة التحضيرية وإدارة المؤتمر الإشارة إلى مسألتين:

  • إنّ المشاركين في هذا المؤتمر، تحضيراً وأعمالاً وبياناً ختامياً، هم من المسيحيين والمسلمين، عرباً وغير عرب، باعتبار أن موضوعه الرئيس هو "خيار المسيحيين" في هذه الحقبة المفصلية، وأن هذا الخيار لا يجوز تحديده بمعزلٍ عن شركاء الحياة والمصير في الوطن والمنطقة العربية.
  • إنّ التفكير في موضوع المؤتمر لدى المشاركين قد سبق انعقاده بنحو سنتين، خصوصاً مع تصاعد نغمة "الأقلويّة وطلب الحماية" في بعض الأوساط المسيحية العربية، من سياسيةٍ علمانية وإكليركية، تلك النغمة التي تناهت إلى أسماع حاضرة الفاتيكان، ورفضَها قداسة البابا بصريح العبارات والتوجيهات. كذلك فإن التحضيرات العملية لانعقاد مؤتمرنا قد امتدّت على أكثر من ستة أشهر، ما يعني بوضوح أنه لم يأتِ رداً مرتجلاً على "اللقاء المشرقي" الذي انعقد الشهر الفائت في بيروت. هذا وإن قدّم لنا "اللقاءُ المشرقي" مسوّغاً إضافياً للإصرار على مؤتمرنا، لا سيما بوضعه "مشروع المشرقية" في مواجهة رابطة العروبة؛ وذلك بقوله : "إنّ المشرقية حضنٌ حضاري ثقافي، يمتد على مساحة العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، لكننا نريد تحويلها من مفهومٍ مجرّد للحضن إلى حاضنةِ جغرافية حسّية، على أمل أن تأخذ شكل الكيان السياسي الاقتصادي(...) الذي نسعى إلى أن نؤمّن له الحشد الدولي والحاجة الإقليمية" (من الوثيقة التأسيسية للقاء المشرقي، 15 تشرين الاول 2019- وكالات).

ثانياً

 وفي ختام المؤتمر، وفق الجلسات الأربع المشار اليها أصدر المجتمعون بيان المفاهيم والقناعات والتوافقات التالية:

  1. 1. رأى المجتمعون أنّ التحدّي الحقيقي الماثِلَ اليوم أمام المسيحيين في المنطقة العربية إنما يتلخّص في الإجابة عن السؤال التالي: "كيف نواصل العيش مع شركائنا في الحياة والمصير، متساوين ومختلفين: متساوين في كرامتنا الانسانية كما في حقوقنا والواجبات، ومختلفين - أي متنوّعين ومتغايرين - في انتماءاتنا الدينية والعرقية والثقافية، ومتضامنين في السعي نحو مستقبل أفضل لجميعنا؟".
  2. هذه المعادلة لا تطرح علينا احتمالاً من بين احتمالات، وإنما هي معادلةُ الضرورة والاختيار في آنٍ معاً، بما يُتيح لنا الشهادةَ لإيماننا المسيحي في مجتمعاتٍ تعدديةٍ منفتحة - وهي أفضلُ الشهادات بحسب عقيدتنا، فيما لم يعد ثمة مكانٌ في هذا العالم المعولَم لمجتمعاتٍ صافية مغلقة - وبما يُتيح في الوقت نفسه تحقيق مصلحتنا في نطاق المصلحة الكلّية الجامعة لنا ولشركائنا في الوطن والمنطقة العربية.
  3. إنها معادلةُ "مواصلة العيش معاً"، وليست سؤالَ البحثِ عن عيشٍ آخر، سعياً وراءَ أفكارٍ ومشاريعَ سياسية، من مثل "تحالفِ أقليّاتٍ بوجه أكثرية" بدلاً من تحالفِ القيم الإنسانية الجامعة، أو التماسِ "حماياتٍ خارجية" بدلاً من حمايةِ بيئتنا الانسانية ومناعتنا الذاتية، أو إشهار هويّةٍ "مشرقية" بوجه الهوية العربية... وهي في الواقع والمتوقّع أفكارٌ ومشاريع ليس من شأنها إلا مفاقمة ما يشكو منه المسيحيون واستعجالُ ما يخافونه ويتوجّسون منه.
  4. إنها معادلةُ توكيدِ الهويّة والانتماء والحضور، في منطقةٍ "نحن نمثّلُ أعتقَ ما فيها وأحدثَ ما في العالم من حولنا، ولسنا بحاجةٍ إلى من يشرِّقُنا أو يغرِّبنا أو يعرِّبنا..."، كما جاء على لسان بعض رهباننا، كما أننا من "روّادِ نهضتها أيامُ النهضة، والمكابدين لنكباتها أيامَ النكبات"، على ما جاء في إرشاداتنا الرسولية، وبالتالي "فنحن في هذه المنطقة، مسيحيين ومسلمين، مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله والتاريخ"، بحسب الرسالة الأولى لبطاركة الشرق الكاثوليك 1992، كما أننا مواطنون في "أوطانٍ نهائية لجميع أبنائها، عربيةِ الهوية والانتماء"، كما جاء في بعض دساتير بلداننا، وهو ما نرجو أن نراه ماثلاً في سائر الدساتير.
  5. إنّ العروبة أو "العربية" التي نؤمن بها وندعو إليها رابطةٌ ثقافية حضارية، أساسُها اللغة العربية ونظامُ المصلحة المشتركة في نطاق جامعة الدول العربية وميثاقها، بعيداً عن أي تعريفٍ دينيّ أو عرقي أو سياسي امبراطوري، صريحٍ أو موارب؛ وهو ما عبّر عنه بدرجة عالية من الوضوح والنضج، وبما يتجاوز التعريفات القوموية السابقة، "اعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية في آذار/ مارس 2007. بالتالي فإنّ العروبة التي ندعو إليها هي عروبةُ التلاقي الحرّ التي تتّسع لجميع أبنائها، عرباً وغيرِ عرب، مؤمنين بديانةٍ سماوية أو غيرَ مؤمنين، دونما تمييزٍ أو مفاضلةٍ أو حُكمِ قيمةٍ مسبَق.
  6. وعليه فإنّ مداميك العروبة هي الوطنيات في البلدان العربية، بوصف هذه البلدان أوطاناً نهائيةً لجميع أبنائها، متحققةً في دولٍ وطنية. بَيدَ أنّ الدولة الوطنية، كيما تعبِّرَ عن متَّحَدِها المجتمعي تعبيراً صادقاً ومُنصفاً، ينبغي أن تكون "دولةً مدنية"، توفّر الحقوق الأساسية للمواطنين الأفراد، والضمانات للجماعات، بما يُتيح لهذه الجماعات التعبير بحريةٍ وأمان عن خصوصياتها الثقافية، بما في ذلك العقيدة الدينية منظوراً إليها ببُعدها الثقافي. ومن نافل القول أنّ أداء الدولة الوطنية- المدنية لمهماتها الأساسية متوقّفٌ على تمتّعها بالسيادة على أرضها والمقيمين، كما بيّنت تجارب الوصايات الخارجية، ومغامرات العقائد العابرة لحدود الأوطان والدول، فضلاً عن وجود بلداننا على دربِ الفيَلة والمشاريع الامبراطورية المستلّة من دفاترِ حِقَبٍ غابرة.
  7. تلك المفاهيم والخيارات التي يُعلنها مؤتمرنا، والتي نعتقد بقوة أنها تعبر عن رأي ومصلحة الغالبية العظمى من المسيحيين في بلادنا، فضلاً عما فيها من مصلحة أكيدة لسائر أبناء المنطقة، إنما جاءت من تداولٍ حرّ ومسؤول مع شركائنا المسلمين في المؤتمر، مسترشدين جميعاً بإعلانات سامية صدرت في الفترة الأخيرة، نخصّ منها بالذكر إعلان الأزهر- 2017، وثيقة الأخوّة الانسانية - 2019، إعلان مراكش -2019 وإعلان مكة - 2019. بَيدَ أن تلك المبادئ والمفاهيم والخيارات قد جاءت في الأصل من حوار الحياة عبر مئات السنين بين من قيّض اللهُ لهم العيش معاً على هذه الارض العربية. وعليه فإنّ تنوّعنا الفذّ هذا هو مصدر ثراءٍ وشاهدُ نعمة، نتمسّك به جميعاً تمسّكنا بوحدتنا. فالمشكلة ليست في التنوّع والتعدّد، كما روّجت ايديولوجياتٌ ومشاريع توتاليتارية، وإنما في سوء إدارتها.
  8. وإذ ينعقد مؤتمرُنا ويختم أعماله، فيما ينبعث أملٌ جديد من ساحات الاعتراض الشعبي على ظلامات موصوفة، في لبنان والعراق، وقباهما في السودان والجزائر وتونس وغيرها، بحراكٍ قدّم البرهانَ على استيعابه دروس النسخة الدامية من "الربيع العربي" الفائت، فجاء هذا الاعتراض أكثر قوّة بسلميته، وأكثر نجاعةً بتجاوزه التّصنيفات ما دون الوطنية، وأكثر تقدّميةً وحضاريةً بتطابقه مع الحقوق الأساسية للإنسان أينما كان... فإن مؤتمرنا يحيّي هذا الحراك تحية إكبارٍ وتعظيم، وينحني أمامه، ويتعلّم منه.