الطريق الوحيد لإعادة إحياء الوطن المعطل

الطريق الوحيد لإعادة إحياء الوطن المعطل
الأربعاء 21 أغسطس, 2019

لا امل من انتظار معالجة المسؤولين للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والوطنية.

لا امل ايضا من المراهنة على الضغط على المسؤولين لتغيير سياساتهم فالسلطة غير معنية بالمشكلات. وقوى المعارضة، الحزبية والنقابية والمدنية، عاجزة كليا عن التأثير على قرارات السلطة.

لا امل من الانتظار، على الناس ان تتدبر امورها بنفسها.

البلد يسير على خطين متقاطعين، لا يؤديان الا الى الانهيار: خط تراكم العجز المالي وتراجع النمو الاقتصادي، وخط الانخراط في الصراع الاميركي- الايراني. واللاعبون على الخطين، يستخدمون الخطين، لتحقيق اهدافهم.

اكرر، لا امل من انتظار الفرج من الدولة او من معارضتها.

على الاقل في المدى المنظور. والانتظار هو استسلام حتمي لمصير بائس.

الوطن المعطل والسلطة غير المسؤولة

نحن لم نعد في وطن تحكمه دولة: الشعب منقسم، الحدود مشرعة، والدولة منقسمة وتابعة لقوى الخارج، من دول إقليمية ومن مؤسسات دولية مالية. العناصر الثلاثة لقيام وطن مفقودة الى اجل غير مسمى.

هذه السلطة ليست سلطة لتسيير شؤون الناس بل لتعطيلها. ففي الوطن المعطل التعطيل وحده يصنع السياسة.

ليس الاجتماع الحكومي هو من يصنع السياسة في لبنان، بل تعطيل الاجتماع. لا اهمية للصراع على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. في الوطن المعطل، الذي يعطل الاجتماعات وليس الذي يعقدها، هو من يصنع السياسة.

تاريخ السياسة في لبنان منذ سنة 2006 هو تاريخ التعطيل. تعطيل المجلس النيابي والحكومة ساهم بالوصول الى إتفاق الدوحة ومن ضمنه قانون إنتخاب نيابي جديد وإنتخاب الرئيس سليمان.

تعطيل الانتخابات الرئاسية، ساهم بإنتخاب الرئيس عون، والتأسيس للحالة السياسية الحالية.

تعطيل تأليف حكومة الحريري الاخيرة ساهم بتشكيل الحكومة، بحسب ما يشتهي المعطلون.

تعطيل اجتماعات الحكومة الحالية، بعد حادثة قبرشمون، هو الذى ادى الى الوضع السياسي الحالي، تحت عنوان المصارحة والمصالحة.

ليس تعطيل الاجتماعات هو وسيلة الاضعف الذي يخشى نتيجة الاجتماع. بل هو أيضا من فعل الاقوى بحيث أصبح التعطيل هدفا بحد ذاته.

انه كالعصيان المدني الذي يعلنه عادة المتضررون ضد السلطة، للضغط عليها لتحقيق المطالب. لكنه هنا عصيان السلطة ضد المجتمع، حتى يتوقف المجتمع عن المطالبة.

ولأن الدستور يصاغ اصلا لتفادي الفراغ والتعطيل في الحياة العامة، لا بد من مراجعة معنى الدستور في الوطن المعطل، بحيث تحدد صلاحيات من يحق له

تعطيل الاجتماعات وليس من يحق له عقدها.

بمعنى آخر إن تعطيل السلطة هو إجراء متقدم لتعطيل معنى الدستور وليس الدستور فحسب.

لا عجب ان تعطل هذه السلطة نفسها. فالسلطة في الوطن المعطل، لا تعترف اصلا انها سلطة مسؤولة، بل هي تدعي دائما انها معارضة.

حزب الله، الطرف الاقوى عسكريا وسياسيا، في المعادلة اللبنانية الحالية، لا يتوقف عن نفي نفوذه الكبير في إتخاذ القرارات الاساسية، رغم ان دوره في تأليف الحكومات وفي انتخاب رئيس للجمهورية، كما في تحديد السياسة الخارجية، هو اكثر من حاسم. والحزب بشكل عام، ينظر الى نفسه كجزء من محور الممانعة الاقليمية. اي عمليا، هو لا يرى نفسه في موقع مسؤول في السلطة المحلية اللبنانية، بل في موقع الممانع لمشروع ما في الإطار الاقليمي الذي يشمل لبنان. يرى نفسه في موقع الممانع، وذلك رغم انتصار محور الممانعة في هذا الاقليم.

ذكرى ٧ آب ٢٠١٩، الذي احتفل بها "التيار الوطني الحر"، وقرر بمناسبتها وضع حجر الاساس لمقره الرئيسي، مثال حي آخر عن نظرة السلطة لنفسها، او للصورة التي تريد اعطاءها عن نفسها.

فالذكرى التي تذكر بقمع الشباب "العوني" و"القواتي" من قبل النظام الامني السوري اللبناني سنة ٢٠٠١، تسمح

"للتيار الوطني الحر" بأن يحتفل وكأنه لم يصبح حاكما بل لا يزال محكوما.

والذكرى تسمح للحاكم باستخدام مظلومية الماضي ليستمر في حكمه دون ان يسأله احد عن الظلم الواقع إبان حكمه.

في المقابل يكرر رئيس الحكومة انه مسؤول ويدافع عن صلاحياته. لكنه يتصرف عمليا وكأنه غير مسؤول، لا عن السياسة الداخلية ولا عن السياسة الخارجية.

يتمسك بالسلطة لكنه لا يمارسها. حتى انه يتعامل مع الازمة الاقتصادية وكأن لا علاقة لها بالنموذج الذي اختاره تياره السياسي ولا يزال. يزيد الطين بلة انه دائما متفائل رغم عجزه الفاضح عن مواجهة الاحداث. التفاؤل عنده بديل من المواجهة.

ليس مستغربا في هذه الحالات ان تتقاعس السلطة، المتنكرة لمسؤولياتها، عن تحمل المسؤوليات الاجتماعية والوطنية وسط تصفيق جمهورها.

ولا شيء يغير من سلوكها، حتى ولو وصلت الازمة الى الطعن، نعم الطعن، بالحقوق الاساسية التي لا حياة اجتماعية بدونها:

- الحق بالسكن(منع المسلمين من السكن في بلدة الحدث، وربما بشكل غير معلن منع المسيحيين او المسلمين في بلدات اخرى).

- الحق بالعمل(عدم قبول الناجحين في امتحانات الخدمة المدنية بسبب فقدان التوازن الطائفي بينهم).

- الحق بالصحة(العقبات الطائفية امام ايجاد مطامر للنفايات).

- الحق بالتنقل(حادثة قبرشمون).

- الحق بالتعبير الحر(حوادث منع الحفلات في جبيل والنبطية وبنت جبيل).

عندما تتعطل الخدمات العامة الاساسية من ماء وكهرباء، ويجري الطعن بالحقوق الانسانية الرئيسية، ولا يكون باستطاعة المواطنين في وطن معطل، ان يعتمدوا على السلطة او على معارضتها لحل مشكلاتهم، لا بد عندها ان يتكلوا على انفسهم وان يلجأوا الى التعاون.

"العونة"

انها دعوة لللبنانيين لإعادة احياء ما يعرف ب"العونة"، هذه العادة التي عرفوها في القرنين الثامن والتاسع عشر خاصة، ولا يزال البعض يمارسها حتى الان. اي تبادل الخدمات او السلع بين الاهالي والتعاون في الورش وفي الزرع وتنظيم العمل بما يتناسب مع مصلحة الجماعة. ويحصل هذا عادة عندما تقصر السلطة المركزية في مهامها الاجتماعية، وعندما تضعف امكانية التبادل التجاري بواسطة العملة، وهي ظروف لا تبعد كثيرا عن ظروفنا.

اللجوء الى "العونة" لا يعني التوقف عن الاحتجاجات القطاعية. لكن عندما تحل الكوارث، اول ما نحتاجه هو اعمال الاغاثة. و"العونة" في ظروفنا الكارثية، هي شكل من اشكال الاغاثة.

ربما ان بعض اللبنانيين قد بدأوا بالفعل بممارسة "العونة" ردا على الظروف الحالية الصعبة.

اريد ان اعطي هنا مثالين، قد تمظهرا اعلاميا في الآونة الاخيرة، حول حلول فكرة "العونة" في الممارسة الجماعية.

المثل الاول هو ما كرر فعله وزير البيئة، مرة في تنظيف الشاطىء ومرة في تنظيف الانهر، من خلال تعاون الناس في عملية التنظيف هذه من دون انتظار دعم الدولة. وكأني بوزير البيئة نفسه، وهو جزء من السلطة، يقر بعجز هذه السلطة، وبأن لا حل الا "بالعونة".

المثل الثاني هو طريقة مواجهة المجتمع المدني لمنع "مشروع ليلى"، من إقامة حفلته في جبيل. فالمجتمع المدني لم يواجه السلطة، الدينية والسياسية، وجها لوجه لإجبارها على إقامة الحفلة. هذه المواجهة كانت خجولة وعبر التواصل الاجتماعي فقط.

المواجهة الفعلية كانت بعد منع الحفلة، من خلال تنظيم حفلة بديلة في الحمرا. اي عمليا، لم ينتظر المجتمع المدني قرارا من الدولة لممارسة حق التعبير، بل نظم من خلال جهود مدنية مشتركة، حفلا مارس فيه حق التعبير هذا. انه شكل من أشكال "العونة" في مواجهة تقاعس الدولة عن تأمين ممارسة الحقوق.

"العونة" وسيلتنا اليوم كلبنانيين للبقاء على قيد الحياة. لكنها ايضا إعادة تأهيل للمواطنين على التعاون والمسؤولية المواطنية، ونوع من العصيان المدني وعدم الاعتراف بسلطة تابعة، لا تعترف هي بنفسها كسلطة مسؤولة.

يبدو انه الطريق الوحيد المتبقي لنا لأعادة إحياء الوطن المعطل، ولو بعد زمن قد يطول.

 

غسان صليبي

صحيفة النهار