غياب العدالة وسقوط العقد مع الدولة - ايلي القصيفي

غياب العدالة وسقوط العقد مع الدولة - ايلي القصيفي
الأحد 23 أغسطس, 2020

ليست الخمسة عشر عاماً التي استغرقتها التحقيقات والمحاكمة الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري سوى مدّة قصيرة جداً قياساً إلى عمر الجرائم السياسيّة في لبنان. منذ رياض الصلح إلى محمد شطح عشرات الجرائم السياسيّة التي طالت سياسيين ومعارضين بينهم رئيسا جمهورية وثلاثة رؤساء حكومة آخرهم رفيق الحريري. عقودٌ مرّت ولم يكن خلالها أي سياسي أو صحافي معارض بمنأى عن الإغتيال والأذية المعنوية والجسدية. فهل يضع حكم المحكمة الخاصة في لبنان حدّا للجريمة السياسيّة؟

الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الإجابة عن أسئلة أخرى طرحها الحكم المذكور لا لجهّة وضوح مضمونه ودقّته والتزامه اختصاص المحكمة الصادر عنها، بل لجهة مفاعيله السياسيّة والقانونية. إذ أنّ استمرار الحياة السياسيّة بعد الحكم المذكور كما لو أنّه لم يصدر يعني أنّنا نعيش تحت حكم دولة فاقدة لقيمة العدالة، وهو ما يُعدّ معياراً كافياً لاعتبار حاكميتها ساقطة ولاعتبار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين لاغياً.

هذا هو الوقع الحقيقي للحكم مهما حاول المغرضون أو السذّج تسخيفه وتحويره. لقد أدان الحكم متّهماً من أصل أربعة آخرين "أثبتت الأدلة إنتماءه إلى حزب الله". كما أكّد أنّ "حزب الله وسوريا استفادا من اغتيال الحريري، وأنّ قرار الاغتيال جاء بعد الاجتماع الثالث في البريستول لقوى المعارضة الذي طالب بانسحاب القوات السورية من لبنان". أي أنّ الحكم كان واضحاً في تبيان أسباب تصنيفه الجريمة كجريمة سياسية وذلك من خلال ربطها بسياق سياسي معيّن تعييناً دقيقاً. وهو ما يعدّ، إذا ما عُطف على الهوية الحزبية للشخص المُدان، بمثابة تأطير سياسيّ وجنائي للجريمة، بحيث يؤكّد وقوعها في توقيت سياسي محدّد على يدّ شخص محدّد ينتمي إلى حزب محدّد هو "حزب الله". وذلك مع الأخذ في الاعتبار أنّ "اختصاص المحكمة الخاصة لا يشمل محاكمة الدول والأحزاب إنما يبقى محصوراً بتحديد المسؤولية الجنائية للأفراد".

غنيّ عن القول إنّ "حزب الله" يشارك في البرلمان والحكومة ويمتلك في الوقت نفسه ترسانة صاروخية تحت ذريعة إقامة توازن ردع مع إسرائيل. وهذا كلّه يطرح أسئلة حقيقية حول مستقبل العلاقات السياسيّة مع الحزب المذكور لا لجهة علاقات القوى السياسية به وحسب، بل لجهة علاقة المواطنين به، وهو ممثّل سياسيّاً في الدولة التي يرتبطون بعقد سياسي واجتماعي معها. تلك الدولة التي لم تظهر لا بسلطتها السياسية ولا بأجهزتها القضائية والأمنية إرادة واضحة لإنفاذ حكم العدالة في جريمة اغتيال الحريري. وذلك في وقت يتسلّم سلطات تشريعية وتنفيذية فيها أعضاء في حزب أدين عنصر فيه بالجريمة تلك.  

والحال كيف يُمكن الإعتراف بشرعيّة وزير أو نائب ينتمي إلى حزب أدين أحد عناصره بجريمة سياسيّة أودت بحياة رئيس وزراء و21 مواطناً آخرين؟ وكيف يمكن الاعتراف بشرعيّة دولة يتمثّل فيها حزب أدين أحد أعضائه بالقيام بجريمة سياسيّة، وبالرغم من ذلك فإنّ المُدان لم يمثل أمام العدالة ولا السلطة وأجهزتها القضائية والأمنية أظهرت إرادة لتوقيفه ولا حزبه سلّمه. كذلك فإنّ هذه السلطة بأجهزتها تغطّي على ترسانة أسلحة للحزب عينه وقد استخدمت ضدّ لبنانيين!

هذه هي الأسئلة الأساسية المطروحة علينا كمواطنين نريد العيش في كنف دولة حق وقانون؟ وهذه الأسئلة التي نبحث عن إجابة حقيقية عنها، لكنّنا لا نجد. خصوصاً أنّ "حزب الله" وحلفاءه يكابرون على حكم المحكمة وينكأون الجراج برفع صور المدان بالجريمة، ويتوسّلون التغطية السياسية الخارجية لهم للإفلات من وطأة الحكم عليهم، وإلّا ماذا يعني تصريح نائب في "حزب الله" عقب صدور الحكم عن أنّ زميلاً له التقى الرئيس ماكرون خلال زيارته بيروت مرّتين!    

وهذا تصرّف ما كان مستغرباً من قبل الحزب وحلفائه، الذين تعاملوا مع التحقيق والمحاكمة الدولية في الجريمة وفق استراتيجية سياسيّة وأمنية وإعلامية كان هدفها منذ لحظة وقوع الاغتيال التشكيك بصدقية التحقيق والمحاكمة هذين فضلاً عن تضييع ما أمكن من الأدّلة بدءاً بالعبث بمسرح الجريمة كما ذكرت غرفة الدرجة الأولى في المحكمة. وهذا كلّه في محاولة فاضحة من قبلهم لتسخيف الحكم الصادر والتخفيف من وطأته الداخلية والدولية عليهم، وهي وطأة كبيرة جداً بعكس ما يحاولون إظهاره.

لذلك فإنّه لمن المحال التصوّر أن الحياة السياسيّة في لبنان يمكن أن تستقيم بالحدود المعقولة إذا لم ينفذ حكم العدالة في جريمة اغتيال الحريري، وإلّا فإنّ هذا الحكم يجب أن يشكّل حدّا فاصلاً في الحياة السياسية فلا يكون ما بعده مثل ما قبله لجهة الموقف السياسي من "حزب الله" والشراكة السياسية معه ضمن الدولة لا من قبل الأحزاب وحسب بل من قبل المواطنين أيضاً الذين لا يدفعون الضرائب لتؤمن الدولة المياه والكهرباء لهم وحسب - وهي لا تؤمنهما أصلاً - بل لتوفّر لهم حقوقهم الأساسية وف يمقدمّها الأمن والأمان والعدالة. وهذه كلّها أظهر تفجير مرفأ بيروت أنّ الدولة غافلة عنها وأنّها متواطئة في فقدناها، ولذلك فإنّ رحيل السلطة القائمة بدءاً برئيس الجمهورية هو بداية استعادة الدولة، وإلّا فأنّ المواطنين بحلّ من العقد معها لأنّها لا تحميهم بل تتغاضى عن قتلتهم المتواصل وتشارك فيه!