حال المسيحيين

حال المسيحيين
الجمعة 24 إبريل, 2020

يعيش المسيحيون منذ انهيار الدولة في 13 نيسان 1975، التي بنوها بعرقهم وصلابة اجدادهم وحكمة كنيستهم حالة من القلق على الوجود والمصير. إذ في كلّ مرة كانوا يواجهون شدّة، أكانت مدبّرة أو ناتجة عن ظروفهم وظروف محيطهم، ينكفئون إلى خلف خطوطٍ دفاعية وبعد مدة من الصمود يأخذون طريق الهجرة في اتجاه الغرب، حتى توصّلوا إلى بناء حوالي ثمانين رعيّة مارونية في الولايات المتحدة وحدها، يشرف عليها مطرانان احدهُما وُلد في اميركا، ناهيك عن الأرثوذكس وسائر الكنائس الأخرى.

هذا السلوك الانكفائي تحكّم بهم حتى بروزه للعين المجرّدة كلازمٍ لهم، فعاينه بعضُ الداخل والخارج وأخذ يستغلّ نقاط ضعفهم وتوظيفها في سياساتٍ أدّت إلى مزيدٍ من الهجرة والتشريد، ونقلتهم من طائفة شجاعة إلى طائفة خائفة. وإنّ شهادتهم للمسيح في بيئةٍ مختلفة خير دليل على ذلك. إذ ليس "مأثرةَ وتمييزاً" أن تكون مسيحياً في روما إنما المأثِرة والتمييزُ والشجاعةُ والاستقامةُ أن تشهد للمسيح في عمّان وبيت لحم وحلب ودمشق والقاهرة وغيرها من مدن العيش المشترك.

في كلّ مرة يعاين هذا البعض نقاط ضعفهم يسعى إلى إخافتهم من جديد، طارحاً نفسه "منقذاً" لهم وحامياً لمصالحهم. لكنّهم تعلّموا، وكم تعلّموا، أن كلّ من ادعى حمايتهم كان حامياً لمصالحه!

وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء، بعد انهيار الدولة في 13 نيسان 1975، قاموا وعن حقّ بالدفاع عن الدولة باسم الشرعية وتنظّموا في أطر سياسية وعسكرية واجتماعية رديفة وصمدوا. وفي لحظة "ضعفهم" دخل الحليف الخصم، حافظ الأسد، "لإنقاذهم" من "المسلمين واليساريين والفلسطينيين" ومن التقسيم. في حينه قيل إن الغرب تخلّى عنهم وأبدى اهتماماً "للبرنامج المرحلي للحركة الوطنية" وأنه أراد تهجيرهم من خلال ارسال البواخر لنقلهم إلى كندا، بينما "الصديق الأقلّوي" في الشرق هو الذي أنقذهم من الغالبية "المسلمة".

وعندما ضاق صدرهم من وصاية الأخ الصديق الخصم تنبّهوا لمتغيرات المنطقة بعد اتفاق "كامب دايفد" الذي أبرم سلاماً بين أكبر دولة سنّية في المنطقة وأصفى دولة عربية في الصراع مع اسرائيل وبين دولة اسرائيل، وقدّروا أنهم بحجم مصر والاردن وأبو عمّار (صاحب القضية) وسلكوا طريق السلام للدخول إلى دائرة اهتمام العالم ونجحوا. قُتل بشير الجميل وعادوا إلى المربّع الأول أي إلى يوم 13 نيسان 1975.

"قُتِلوا وقَتَلوا وتقاتلوا" كما جاء في المجمع البطريركي الماروني بين العام 1982 و1990، واستمرّت كنيستهم بالحوار مع "الآخر" حتى الوصول إلى اتفاق الطائف لوضع حدّ للحرب التي كلّفتهم 60 ألف شهيدٍ و100 ألف نازح من منطقة إلى أخرى وتدمير قرى وبلدات ناهيك عن حوالي 800 ألف غادروا لبنان منذ 13 نيسان 1975.

ودافعت الكنيسة المارونية عن العقد الاجتماعي الذي توصّلت إليه في اتفاق الطائف، حيث:

اعترف المسلمون للمرة الأولى كتابةً بنهائية الكيان اللبناني - "لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه"،

واعترف المسيحيون للمرة الأولى كتابةً بعروبة لبنان - "لبنان عربي الهوية والانتماء".

عليهم أن يتنبّهوا اليوم، وفي لحظة إعادة ترسيم المنطقة، إلى أن الحفاظ على هذا الكنز اللبناني هو بمثابة الحفاظ على أولادهم، ولأن الخروج من اتفاق الطائف يعني الخروج من الالتزامات الوطنية.

بعد الحرب، عاد الشقيق الخصم، الذي أنقذهم من "المسلمين" في العام 1976، إلى الساحة بقوة تحت عنوان الوصاية فعاشوا عودته بألمٍ شديد. انقسموا بين من اعتبر أن موازين القوى فرضت عليهم العيش مع الواقع وتماشى مع الوصاية محققاً مكاسب لا تقلّ عن تلك التي حقّقها غيره، وبين من شاكس وصمت بهدوء. وعارضت أقلّية سياسية إلى جانب أكثرية كنسية قادها البطريرك صفير عاونه لفيفٌ من المطارنة على رأسهم المطران يوسف بشارة.

في هذه الحقبة عاين المنقذُ السابق ضعفهم من جديد وقدّم نفسه مخلّصاً وأقنعهم أن بقاء جيشه في لبنان يمنع سيطرة المسلمين الأثرياء، مثل رفيق الحريري، عليهم كما يمنع المسلمين الأقوياء بسلاحهم، مثل حزب الله، من السيطرة عليهم. وهناك من صدّق!

إنما يُسجّل لتلك الفترة حسنةٌ كبيرة لم يعترفوا بها إلى اليوم وهي وقف الهجرة، بل بالعكس هناك من عاد إلى لبنان والذي لم يعُد جسدياً أرسل أمواله إلى نظام لبنان المصرفي الذي حمى جنى عمره من ضرائب الدول التي يعيش فيها وأمّن له فوائد لم يحلم بها في بلدان اقامته.

اليوم يستعدّون مجدداً للهجرة، ويعاين "البعض" مجدداً قلقهم وخوفهم ويقول لهم إنّ أزمتهم المالية وانهيار نظامهم الاقتصادي الحر، الذي بنوه مع قانون سرية المصارف في العام 1956 بفضل ريمون إده وكميل شمعون وجورج كرم، هو نتيجة مؤامرة غربية ضدّهم هدفها تجويعهم حتى قبولهم بتوطين الفلسطينيين والسوريين، أي بمزيدٍ من المسلمين على ميزانهم الديموغرافي.

متى سيتعلّمون أنهم "ملح الأرض"؟ من يخيفهم يقوم بعمله الملعون، لكن عليهم أن لا يخافوا!

جبلهم، جبل شربل ورفقا والحرديني وإيمانهم جعل منهم رجاءً لبنانياً وعربياً!

عليهم أن يدركوا أن خيرة المسلمين بحاجةٍ إليهم، وأن يعملوا على توطيد أواصر الصداقة معهم!

انظروا إلى معاني زيارة البطريرك الراعي إلى المملكة العربية السعودية!

اقرأوا وثيقة الأخوة الانسانية!

تابعوا عمل البابا فرنسيس مع الازهر!

وتابعوا زيارة البابا إلى المغرب!

إنّهم كامِلُو المسيحية والعربية، مثلما المسيحُ كاملُ الانسانية وكاملُ الألوهة!

لا تنخدعوا بمشروعِ أقلياتٍ، بل اندفعوا بإيمانٍ وشجاعة نحو "كنيسة العرب" التي تحاكي تعاليم الكنيسة الرسولية في روما منذ الفاتيكان الثاني 1965 وصولاً إلى المجمع البطريركي الماروني 2006، والتي من شأنها - إذا قامت - أن تعيدكم إلى موقع الشراكة الفعلية في نهضة المنطقة، مثلما كنتم أيامَ عصر النهضة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين!

لقد أحزنني إقفال مستشفى سيدة لبنان، كما أربكني استلحاق بعض المستشفيات المسيحيّة بخجل وبعد حين في معركة كورونا، بعد ان برز دور مستشفى رفيق الحريري الحكومي  ضمانة صحيّة لجميع اللبنانيين. إننا نخسر القطاع الاستشفائي كما خسرنا القطاع المصرفي بعيون مفتوحة، غير مدركين ان فقدان الدور يعود بِنا الى مرتبة الجماعة الهامشيّة التي تعيش فقط برحمة الآخرين.

 

فارس سعيد