مواعيد مسقط..

مواعيد مسقط..
الجمعة 2 نوفمبر, 2018

من يتأمل عقد المنطقة سيستنتج أن أصحابها جميعا، يقبلون التقاطع في مسقط، وعليه "لا غرابة" أن تباشر عُمان ورشة أخرى لا تكون فيها وسيطا، بل ميسّراً حيويا لوصل يتوق إليه الآخرون.

 

 أن يزور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسقط، فالأمر حدثٌ يستحق قرقعة إخبارية، لكنه ليس مفاجأة، ولنكف عن ادعاء الدهشة. سبق لمسؤولين من مستويات عالية (إسحاق رابين وشمعون بيريز مثلا) أن زاروا سلطنة عمان في العقود الأخيرة، وسبق لمسؤولين آخرين أن زاروا عواصم عربية أخرى بمناسبات متعددة وبظروف مختلفة. وفي كل مرة، كان أمر ذلك يثير جدلا، بعضه ضروري وناجع، وأكثره شعبوي محشو بالمزايدات، يندرج ضمن مماحكات العواصم وتصفية الحسابات بينها.

تميّزت سلطنة عمان دائماً عن المشهد العربي العام. أطلت مسقط دوماً على قضايا العرب من موقع آخر فيه من الحكمة والنباهة ما خلّصها منذ عقود من قصائد الجعجعة التي لطالما “رمت إسرائيل في البحر”. عملت سلطنة عمان وفق واقعية سياسية اكتشفها الآخرون متأخرين. تقرأ السلطنة السياسة بلغة الجغرافيا وخرائطها. ووفق ذلك، وبدقة، حفرت علاقاتها الخليجية ونسجت تلك العربية، وجاهرت دون تردّد بجيرة ودودة مع إيران، متكئة على رصيد متراكم من وصل قديم – جديد مع الغرب الكبير.

لم تغير مسقط رأيا في مسائل أجمع عليها العرب. عُمان جزء من جامعة الدول العربية منخرطة في أدبياتها وخياراتها وقراراتها. وحين كان العرب يقعون فريسة خطابهم الخشبي، كانت السلطنة ترمي طوق نجاة لم تبخل به لفتح أي انسداد وتسهيل وصل ما انقطع ومدّ الرواية بحبر جديد يخلّص الراوي من عقد حكايته.

لم تقاطع عُمان مصر أنور السادات بعد كامب دايفيد، وتأملت بصمت عودة المقاطعين عن مقاطعتهم. وإذا ما اكتشف المكتشفون لاحقاً دور مسقط في ولادة الاتفاق النووي مع إيران، أو دورها في توفير سبل الحوار للخروج من مأزق اليمن، فإن لعُمان حكايات أخرى لا تتوقف، تصبّ كلها في خانة السلم والصلح والحوار دون أي يكون لتلك الحكايات أجندات عُمانية خالصة.

لماذا زار نتنياهو مسقط واجتمع مع السلطان قابوس بن سعيد، فذلك أمر تتبرع الأقلام في اختراعه. منها من تحدث عن حكاية إيرانية، ومنها من ربط الأمر بالمسألة الفلسطينية، ومنها من رأى في الأمر أعراض تطبيع يخترق الخليج… إلخ. بيد أن الثابت أن مسقط لا تتوسط، وفق تصريحات الوزير العماني المكلف بالشؤون الخارجية يوسف بن علوي، بل تيسرّ أمرا يريده الآخرون. بمعنى أو بآخر، فإن جهات ومصالح وراء الكواليس تحتاج إلى تواصل، وهنا فقط يمكن السؤال الحقيقي: من هي هذه الجهات وما هي هذه المصالح؟ هنا فقط يجدر تسليط المجهر وإهمال التلهي بقواعد وشروط وظروف وحيثيات ظهور نتنياهو في العاصمة العمانية.

زار مسؤولون إسرائيليون كبار عواصم عربية عديدة منذ مفاصل مدريد، مرورا بكامب دايفيد وأوسلو ووادي عربة. قدمت العواصم الأمر دائما بصيغ متفاوتة، تارة دفعا للسلم، وتارة لكون الزائرين جزءا من فعاليات دولية، وتارة ثالثة “إرضاء لواشنطن”، وفق تعبير رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم. لم تفعل مسقط ذلك، ولم تضطر لاختراع مبررات وأسباب. حتى أن بن علوي اعتبر في تعليقه على زيارة نتنياهو أن “لا غرابة” في أمر ذلك وتوقيته.

لا غرابة. ذلك أن حركة حماس في قطاع غزة تسعى من خلال الرعاية المصرية إلى إبرام هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. يجري الأمر وفق تواصل معلن بين إسرائيل وقطر، ناهيك عن علاقات دبلوماسية كاملة المواصفات بين تل أبيب وأنقرة، دون إهمال التواصل المصري الإسرائيلي المرتبط بوضع قطاع غزة في قضايا الحرب كما قضايا السلم.

ولا غرابة، ذلك أن إسرائيل تقرر في أمر سوريا، وتفرض شروط التموضع على الحدود بين البلدين، وتمارس ضد مواقع إيران ضغوطا عسكرية موجعة على الرغم من توتر علاقتها مع موسكو حول هذا الأمر.

ولا غرابة، ذلك أن إسرائيل باتت، شاء أهل المنطقة أم أبوا، عنوانا أساسيا للاستقرار والتوتر في الشرق الأوسط، وأن التواصل مع قادتها، في عرف المبادرة العربية نفسها، مشروط، وما زال، بمشروع السلم العربي المُقرّ في قمة بيروت عام 2002.

قدّم العرب مشروعهم للسلم في تلك القمة العربية في بيروت. بدا أن العرب يقدّمون عرضاً جريئا، فيما قرأ العالم العرض بصفته نتاجا طبيعيا لتوازن القوى في المنطقة. لا تملك المنطقة مشروعاً عسكريا لإزالة الاحتلال، فذهبت إلى التبرع بعرض يعبّر عن عجز لا عن كرم ورحابة صدر. فهمت إسرائيل الأمر وفق مسلّمة تفوقها، فبقي مشروع العرب السلموي حبراً على ورق.

بعد ساعات على وصول موفد السلطان قابوس إلى رام الله وتسليمه رسالة السلطان للرئيس محمود عباس، أعلن المجلس المركزي قراراته المتشددة معلنا وقف منظمة التحرير لالتزاماتها مع سلطات الاحتلال، وتجميد الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها. قد لا يكون أمر هذا مرتبطا بأمر ذاك، وقد يكون الأمر أيضاً شديد الارتباط، وأن شيئا ما يدبر يستلزم تصعيدا فلسطينيا عشية تحولات قادمة تفوح رائحتها من مسقط.

تأتي زيارة نتنياهو قبل أيام من بدء تفعيل حزمة العقوبات الأميركية الجديدة ضد إيران. ستقبل المنطقة على عهد جديد وجبت مراقبة تفاعلاته. في الكويت أوحى خطاب أمير البلاد قبل أيام أن المنطقة ذاهبة إلى تطورات تجعل ما بعد العقوبات غير ما قبلها. وفي واشنطن يفصح ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس حول اليمن عن تدخّل أميركي مباشر لسحب الورقة اليمنية من طهران. لن تستطيع إيران أن تواجه مزاجا أميركيا دوليا ضاغطا. هكذا توحي تصريحات الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وهكذا تسرّب من تصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف. إيران مقبلة على وجع سيفضي إلى تحولات تقود إلى مفاوضات جديدة حتمية.

تبدو المنطقة على مشارف قرارات كبرى وتغيّر مفصلي في مقاربة ملفات عديدة. تشي القمة التركية الروسية الألمانية الفرنسية (دون إيران) في اسطنبول، بأن حل القضية السورية بات عاجلاً. وتكشف اجتماعات المجموعة الدولية المصغرة حول سوريا في لندن، عن أن العالم يتموضع ليكون شريكاً حقيقيا ضاغطاً على روسيا، رافضاً ترك إيقاعات الحل مرتهنة لمزاج دمشق.

قد نكتشف جميعاً أن زيارة نتنياهو لمسقط هي تفصيل صغير داخل خريطة واسعة ستشهد تحوّلات كبرى. جرت الزيارة برعاية أميركية ورضى خليجي ومواكبة إقليمية واسعة. يكفي ملاحظة التحفظ الإيراني “الحنون” على الحدث لاستنتاج ما توحي به إيران في أزمتها الراهنة.

وفي العودة إلى الجهات والمصالح التي تحتاج إلى سلطنة عُمان هذه الأيام، يكفي تأمل كمّ العقد التي تجتاح المنطقة، سواء داخل منطقة الخليج، أو ذاك المتعلق بمستقبل إيران، أو ذلك المرتبط برشاقة الأجندة الأميركية في الشرق الأوسط، أو المتعلق بمسائل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي بات مزدوجا، واحد عنوانه غزة، وآخر عنوانه رام الله.

من يتأمل عقد المنطقة سيستنتج بسهولة أن أصحابها جميعاً، على اختلاف أجنداتهم، يقبلون التقاطع في مسقط، وعليه “لا غرابة” أن تباشر عُمان ورشة أخرى لا تكون فيها وسيطا، بل ميسّراً حيويا لوصل يتوق إليه الآخرون.

 

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني