طاولة قمار - طوني حبيب

طاولة قمار - طوني حبيب
السبت 10 أكتوبر, 2020

بالمبدأ تكون طاولة القمار عادة طاولة خضراء، لكن هذه الطاولة بالتحديد يتوسّطها بحرٌ متوسط وعلى الضفة الشرقية جبالٌ شامخة تمتدّ حتى منطقة القوقاز وغرباً رمال الصحراء الكبرى. هذه هي الطاولة أو ساحة الصراع. وفي لعبة القمار عادةً يخسر أو يربح اللاعبون نقوداً، لكن على هذه الطاولة اللعب هو على مصائر الشعوب التي تعيش في ساحة الصراع هذه. اللعب في هذه الفترة يدور على عدة مناطق من هذه الساحة. هناك منطقة اسمها لبنان، ومنطقة اسمها سوريا وهناك أيضاً منطقة اسمها ليبيا كذلك هناك منطقة تسمى بشرق المتوسط، وانضمّ إلى هذه المناطق منطقة جديدة اسمها ناغورنو قره باغ. يدير اللعب على هذه الطاولة "لاعبون كبار"؛ منهم أصحاب ألقاب - القيصر الجديد والسلطان الجديد أيضاً، وهناك وليٌّ فقيهٌ، كما أن هناك رئيسي جمهورية، إحداهما خامسة والأخرى فاق عمرها المئتيّ عام وهناك أيضاً رئيس وزراء لدولةٍ يقولون أنها بين نهرين أو هكذا أرادوها. لهؤلاء لاعبون "بيادق" يجلسون حول الطاولة يقامرون وأحياناً يجلس هؤلاء بأنفسهم من أجل وضع رهانٍ او استلام مكسب.

رسمتُ هذه الصورة الكاريكاتورية ليس لأسخر من شعوب المنطقة، فأنا أعيش فيها، وإنما لأؤكّد على أن مصير شعوبها ليس بيدها.

لبنان على هذه الطاولة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، ولقد أنهكته المقامرة به بحيث أصبح شبه دولة. ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن "بيادق الداخل" يقامرون بحماسة قلَّ نظيرها أيضاً من أجل مكاسب داخلية خاصة على حساب الجميع. كما أن غياب أو ضمور دور اللاعب العربي في أزمات هذه الرقعة له ثمنه، ولا سيما في أزمة لبنان، خلال السنوات الاخيرة. إن خطورة هذا الغياب لا تتمثّل فقط بانعدام التوازن في لعبة الأمم الجارية في المنطقة وعليها، بل تتمثّل أيضاً وخصوصاً بانعكاسها السلبي على الخيار التاريخي اللبناني المتجسّد في معادلة: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه (وهو مطلبٌ مسيحي تاريخي)، عربيّ الهوية والانتماء (مطلبٌ إسلامي تاريخي). فهذه المعادلة هي التي أقامت الصيغة اللبنانية على قدميها، بدلاً من الصيغة السابقة (لا شرق ولا غرب)، أي تلك التي قال عنها جورج نقاش: "نَفْيان لا يصنعان أمة" - (deux négations ne font pas une nation).

ويعيش لبنان اليوم أزمات لم تمرّ عليه منذ قيام دولته. وفي الذكرى المئوية لتأسيسه، يقترب لبنان من الدولة المارقة بسرعة جنونية في ظل إحجامٍ تام لقواه الداخلية، السياسية والمدنية، من اتخاذ المبادرة والعمل الجاد على الانقاذ.

أبدأ بالأزمة السياسية، والتي تتجلّى بالتخلّي عن السيادة من أجل تنفيذ أجندات خارجية، وهو أمر دأب عليه اللبنانيون، للأسف، منذ قرون وكانت النتيجة دائماً صداماتٌ داخلية وأضرارٌ اقتصادية طالت الجميع. اليوم، ما يزال هناك فريق مقتنع بأن مصلحته ليست بالتضامن الداخلي، وهو يتحكّم بالقرار السياسي والامني وبقسمٍ كبير من القرار الاقتصادي ويتصرّف بعدائية موصوفة تجاه العالمين العربي والغربي ما أنتج عزل لبنان بالكامل عن محيطه، ورفض العالم بأجمعه مدّ يد العون له لمساعدته على النهوض من كبوته.

يقول البعض أن لبنان يعاني من أزمة نظام، وهذا مفهوم يسوّق حتى في الخارج، لكن الحقيقة أن نظام لبنان لا يعاني من أزمة بنيوية بل أزمته تطبيقية - بمعنى أن نظامه السياسي معطّل منذ ثلاثين سنة في ظلّ وصايتين خارجيتين، سورية ثم ايرانية. وبشهادة الكثيرين هذا البلد الرسالة هو مثالٌ للعيش المشترك الذي يجب أخذَ العبر من طريقة حياته. ألازمة اليوم تتمثّل بوصاية غريبة تمتلك "بيدقاً" مسلحاً بشكلٍ غير شرعي يسيّر البلد بعكس جميع التيارات ويغطّي ويشارك في الفساد المستشري فيه. ويستغلّ وضع اليد هذا أفرقاء في الداخل من أجل المشاركة في اقتناص المغانم وسرقة المال العام بينما أفرقاء آخرون يجلسون جانباً خائفين أو متقاعسين. وهذا النظام عاش منذ تأسيسه عقود نهضة غير مسبوقة كان خلالها ينافس بمستوى معيشته أكثر الدول تقدّماً، وحينها كان القانون هو السائد والدستور هو المُطبّق.

في الأزمة الاقتصادية، يقول الخبراء أن السبب وراء سقوط لبنان في هذه الهاوية سببه السياسيات المالية المتّبعة على مدى عقد ونصف من الزمن والتي كانت تنفّذ من أجل إغناء الفرقاء السياسيين، لكن برأيي أن هناك عاملاً أساسياً لم يؤخذ بالاعتبار، وهو عملية امتصاص الاموال من خزينة الدولة بعمليات التهريب الممنهجة من لبنان إلى سوريا لكل السلع المدعومة من المصرف المركزي وبالتحديد المواد النفطية والقمح كما بعمليات التهرّب الجمركي في مرافئ لبنان ومطاره وعبر حدوده البرية. فبحسب تقرير دولي، في الفترة الممتدة من العام 2013 إلى العام 2019 وفي عملية تهريب المواد النفطية فقط (المازوت، البنزين ووقود الطائرات)، من لبنان إلى سوريا، خسر لبنان مبلغاً يقارب 39 مليار دولار أميركي، ما يعني أن أزمة السيولة اليوم هي نتيجة عملية السرقة هذه بدرجة تساوي السياسات المالية التي اتّبعت في السنوات الاخيرة.

أما الفساد الداخلي والذي تستغلّه الطبقة الحاكمة من أجل الإثراء غير المشروع فهو نتيجة لوجود سلاحٍ غير شرعي يحمي الفاسدين من أجل تنفيذ مشروعه أو مشروع مستخدميه.

الحلّ أيها الاصدقاء هو بتنفيذ القوانين المرعية الاجراء على الجميع وبتنفيذ الدستور اللبناني على الجميع أيضاً، كي نستطيع أن نبدأ بالخروج من الازمات التي تضرب البلد يميناً ويساراً.

إن انتظار مبادراتٍ خارجية من أجل الانقاذ هو عملٌ غير مسؤول، فالخارج لن يكون مهتمّاً بمصلحتنا، بل لديه دائماً مصالحه التي يضعها في المرتبة الأولى مهما كان هذا اللبنان مهماً لهذا الخارج. وتدخّلات هذا الخارج، وهو ليس طرفاً واحداً فقد استعرضت بدايةً لائحة اللاعبين حول "طاولة القمار" في المنطقة، لن تكون لمصلحة لبناننا كما نريد بل يمكن أن تكون على حساب لبنان وعلى حساب مصالحنا.

لذلك، أعود وأكرر، أن خلاصنا يكون بمحاربة ورفض الوصاية الغريبة وبتنفيذ قوانين بلدنا ودستوره أولاً وحماية صيغتنا الفريدة ثانياً، من أجل محاسبة المخالفين والفاسدين ومن أجل بناء مستقبلٍ واعد لشباب هذا البلد.

* نشر ايضاً على موقع صدى البلد مصر.