تاريخ عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد

تاريخ عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد
الجمعة 8 مايو, 2020

في غياب البوصلة السياسية بعد التهجير من لواء اسكندرون

القسم الأول من كتاب عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد

د. سميرة مبيض

 

 

كان البديهي أن يتبع التهجير القسري للمجموعات البشرية من لواء اسكندرون التزام سياسي يؤطر المطالب الطبيعية الناجمة عن انتزاع الأرض وتضييع الهوية وما يرُافق ذلك من غياب للعدالة، كان البديهي اذاً أن ينشأ حراك يرفض معادلات التقاسم المُتجاهلة لمصائر الشعوب، حراك سوري يسعى لإعادة الحدود السورية لما يُوافق البنى الاثنية ضمنها وما يوافق توزعها الجغرافي الطبيعي المترابط مع محيطه وهويته المكانية.

ليس انطلاقاً من عداء ضد دولة أو تقرباً لغيرها بل انطلاقاً من ضرورة ادراج مصالح الشعوب ضمن معادلات مصالح الدول، ضرورة أثبت التاريخ حتميتها فمطالب الانسان بحقوقه بالاستمرارية والازدهار في موطنه هو حق بالفطرة، حق تتوافق عليه المواثيق والعهود الدولية في مواجهة عمليات التهجير المُرتبطة بتقاسم ثروات أو منافذ طبيعية أو مصالح اقتصادية أو جيوسياسية أخرى.

الالتزام السياسي في هذا المسار كان التوجه الأكثر احتمالية والأكثر قدرة على تحقيق العدالة، اذ اجتمعت عوامل وجوده وضرورياته.

لكن توجيه المسار العام للمنطقة جاء بغير ذلك، جاء بما يشغل شعوبها عن قضية ضياع حقوقهم وبوصلة مصالحهم الرئيسية التي كان يجب الوقوف عليها بكل تأني وتعقل بعد انتهاء حقبة الدولة العثمانية لتحقيق الاستقرار المنشود بعد الحرب العالمية الأولى والذي كان بدوره سينعكس ايجاباً على أمن العالم واستقراره.

لكن مصير المنطقة ارتبط بمحاولات الهيمنة المُباشرة على شعوبها ومقدراتها في المرحلة الزمنية الأولى بعد انتهاء الدولة العثمانية عبر آلية الانتداب، وفي المرحلة الثانية كان التوجه نحو انشاء ودعم نظم قمعية شمولية لها مهمة تقييد الشعوب بأدوات مجتمعية وسياسية ومنع تطورها وتقدم بلدانها وكان لهذا النموذج نتائج كارثية، ليس على هذه المنطقة وحسب بل على البشرية جمعاء.

فنتائج القمع الهمجي للحريات ونتائج الهيمنة الأيديولوجية المحمّلة بمبادئ العداء والقائمة على نظرية خلق العدو ونظرية المؤامرة الخارجية والمنهج القائم على تعزيز الفساد وتقويض المنظومة القيمية الإنسانية تُرجم في الواقع بوضع ثبات مُصطنع يعتمد على تجميد وتقييد شمولي لمجتمع حي يُفترض بمساره الطبيعي المتوازن أن يتوجه نحو التقدم والتطور على جميع الصعد وفي الوقت الذي كان به العالم يتقدم كان القمقم يزداد ضيقاً على شعوب المنطقة كمحيط موبوء ينمي ظواهر منحرفة أبرز ما يثير التوجس فيها على الصعيد المحلي، الإقليمي والعالمي هو التطرف الذي برز بشكل مجموعات وأفكار إرهابية قابلة للتصدير وللتوسع والامتداد كنتيجة رئيسية لمنظومة مُنتجة للإرهاب ومُصدرة له مما ينقض أطروحة المحافظة على الاستقرار عبر نظم قمعية.

 فهي في الواقع اختيار منهج التجميد ضمن إطار من القمع والظلم والتجهيل عوضاً عن التطور الإنساني الطبيعي للمجتمع بتفاعله مع العالم ومع مفاهيم الحداثة والانفتاح والمرتبط بالحرية المسؤولة والواعية التي تصل بالمجتمع للتوازن التدريجي.

فمع استيلاء نظام حافظ الأسد على السلطة وبعد تسخيره لنظام البعث كأداة لتسخير المُجتمع السوري ولتقييد الحياة السياسية بمحور المقاومة والممانعة ومن ضمنها المُعارضة بين الشيوعيين والإسلاميين وتسخير المؤسسات الدينية وإلغاء المجتمع المدني والحياة السياسية السليمة المُنفتحة والحرة، باتت سوريا مقيّدة بأطر أُسست لتدور في فلك الأسد لعقود طويلة.

منذ بدء هذه السيطرة على الدولة باتت الدولة ماكينة لتصفير واعدام نِتاج الطاقات السورية، ملايين من العقول بُرمجت ليصبح منتوجها الحضاري الإنساني صفري يصب في ثقب أسود يزداد سعة مع الأيام.

 وذلك باستخدام أدوات التلاعب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي تؤدي بدورها لعملية التدمير الداخلي للشعب السوري وعزله عن مسار التطور والنهوض الطبيعي وتقييده بالتجهيل والجمود تحت شعارات زائفة، وتحت سيطرة نظرية المؤامرة المروّجة لأفكار البعث الاسدي الشمولية والتي شكلت دولة للكذب، واستقرت أركان نظام التسخير السياسي ودامت لخمسة عقود حقق بها الأسد ولمدى بعيد هذا المخطط.

هذا المخطط الذي تواجدت فيه إيران بدور رئيسي لتدمير المنطقة عبر نظام الأسد الذي شكّل رأس حربة وأداة تنفيذ أساسية لها وشكّلت سوريا تحت حكمه مدخلاً لإيران لتحقيق نموذج تجميد الشعوب والذي ورّثه الأسد الاب لاحقاً لابنه مع السلطة.

فهذا التحالف بين سوريا البعث ونظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو تحالف يظهر بعكس الطبيعة كما سمّاه الباحث شارل كاريه في مقال بحثي قديم له يعود لعام 1987، وذلك لسببين رئيسيين الأول هو الاختلاف بالمذهب السائد لدى غالبية الشعب السوري والتي لا يمكن لها أن تتحالف بشكل طبيعي مع حكومة إيران ما بعد الثورة الإسلامية، بحكم الصراع الأيديولوجي الديني التاريخي بين الطائفتين السُنية والشيعية.

السبب الثاني هو القومية العربية والتي ادّعى نظام البعث الأسدي حَملَ رايتها، في حين ان نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية يَعتبرُ القومية العربية منتج امبريالي مناهض لمفهوم الأمة الاسلامية فالثورة الإسلامية الإيرانية انطلقت بشكل رئيسي من منطلق محاربة الامبريالية والغرب من منطلقات يسارية، اضافة الى ادعاء حزب البعث حملَ مفاهيم العلمانية وتحالفه بالحين ذاته مع نظام حكم إيران الحامل لمشروع الأمة الإسلامية، وأخيراً والى ذلك كله يُضاف الصراع التاريخي الثقافي والحضاري بين الفرس والعرب.

تجعل هذه الأسباب من أي تحالف وثيق بين سوريا والجمهورية الاسلامية الإيرانية غير ممكن، على الأقل بالشكل الذي هو عليه منذ ثمانينات القرن الماضي. من هذا المنطلق يمكننا توصيفه بكونه تحالف بين نظام الأسد ونظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضمن استراتيجية محددة تستهدف شعوب بلاد الشام.

هذا التحالف، الذي نقرأ بنوده من النتائج التي نجمت عنه في العقود الخمس الماضية مُحققاً عبرها سياسة توسعية وتخريبية لإيران في بلاد الشام، ومنها محاولات الامتداد لمناطق أخرى.

هذه النتائج التي يُمكننا توصيفها بسياسة تخريبية ممنهجة أدت الى تقهقر على كافة الصعد المجتمعية، الاقتصادية، العلمية، الحقوقية والسياسية ضمن سياق عربي أوسع متدهور ومتراجع على كافة الصعد أيضاً.

اقتضى وصول هذا التحالف الاسدي/الإيراني لأهدافه ايجاد أدوات مُشتركة أهمها هو تصنيع العدو الخارجي كأرضية مُشتركة تُقدم للشعوب والأداة الثانية للأرضية المُشتركة هي الدين من منطلق مفهوم الأمة الإسلامية بمواجهة مفاهيم قومية ومفاهيم دينية أُخرى، منطلقات أدت لمد يد إيران في جميع هذه البلدان ولانغلاق وعزل إنساني وسياسي للمنطقة.

عبر هذه الأدوات ولهذه الأهداف كان حافظ الأسد الحليف الأقوى بل كان الشريك الرئيسي لإيران، نتج عنه فعلياً احتلال إيراني نرى نتائجه واضحة اليوم.

في ظل هذا المنظور الساعي لتقييد المنطقة بالجمود والتقهقر، كان وجود المسيحيين العرب يشكل احد عوائق تنفيذه، مما دفع نحو تهجيرهم وحرف مسارهم السياسي وتغييب دورهم الإنساني، المعرفي، الوطني والقيمي في المجتمعات  العربية ولا يُمكننا الا القول بأسف أن ذلك قد نجح بنسبة كبيرة فدور المسيحيين بشكل عام والمسيحيين العرب بشكل خاص غاب تماماً ومسارهم السياسي تم حرفه بعيداً عن ما يحفظ مصالح بلادهم وهويتها وبات وجودهم في الشرق مهدد بالاندثار أو للقبول بتصنيف الأقلية التي تحتاج لحماية النظم العسكرية من جهة أو حماية خارجية من جهة أخرى مما يُلغي أي صوت مستقل لهم ضمن ثنائية الوصاية المفروضة.

فضمن صراعها التاريخي ضد العرب، كان صراع إيران متضمناً المسيحيون العرب في المنطقة، انطلاقاً من كونهم أصحاب الدور الريادي في إعادة مكانة اللغة العربية، ومن كونهم قادة لحركة التنوير في عهد النهضة العربية التي لم تكتمل، فهم عملوا على إحياء المجتمع والثقافة والعلم والحياة السياسية، كما اجتهدوا نحو بناء هوية وطنية جامعة باعتمادهم على ركائز بناء دول عصرية، كما دعوا لنبذ أي تمييز على أساس الدين أو القومية ودافعوا عن هوية جامعة عمادها الوطن والأرض. كما كانوا جسور انفتاح في مجتمعاتهم وجسور انفتاح ثقافي ومعرفي على الغرب والعالم أجمع أي أن توجهاتهم كانت تُناقض المشروع التخريبي للمنطقة بالجمود والانغلاق والتشدد والتقهقر، لذلك وبوصول هذه النظم الشمولية، تم تهميش دورهم وتهجيرهم وتحييدهم عن أي موقع تأثير يمكن أن يساهم في النهوض ببلدانهم.

انعدام الحياة السياسية وانعدام الحريات في حقبة عهود الاستبداد أدى الى انصياع كثيرين منهم لخيار التهجير تحت عوامل غير مُباشرة أحياناً ومُباشرة في أحيان أُخرى، أما من بقوا فخضعوا كبقية مواطني هذه البُلدان لأدوات اخضاع المجتمع وللتلاعب السياسي به.

تُرجَم ذلك على أرض الواقع باستمرار التهجير المباشر وغير المباشر للمسيحيين من منطقة الشرق الأوسط، وإفراغها فعليًا بتواتر متسارع. إذ تبلغ آخر التقديرات لعدد المسيحيين في مجمل سورية والعراق ما يقارب مليون شخص فقط، يقيمون في مناطق تقع تحت تأثير مباشر للميليشيات الإيرانية، سياسيًا وعسكريًا، إضافة إلى ما يقارب مليون وستمئة ألف شخص في لبنان، أي: في المجمل نحو مليونين وستمئة ألف مسيحي من قوميات مختلفة في هذه المنطقة الجغرافية مهددين من جراء وجود منظومات مُنتجة للإرهاب وبكونهم عموماً يُسخرون كأداة لبقاء هذه الأنظمة تحت وهم الحماية والذي بالتعمق به نرى أنه ليس وهماً فحسب بل أن  ما حدث ويحدث هو العكس تماماً هو تهديد لهذه الفئة  بشكل مُباشر وغير مباشر.

في هذا الإطار الاجتماعي العام، والمكاني الواسع، والمفهوم الإنساني الرحب يدخل تاريخ ومسيرة عائلة مبيض الذي وثقته الأكاديمية والسياسية السورية الدكتورة سميرة مبيض ضمن كتاب (عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد) كنموذج يعكس بعضاً من وجوه هذه الحقبة ويعكس نتائجها الكارثية على طيف هُجّر من ارض انتمائه وسيادته ليوضع تحت هيمنة نُظم قمعية شمولية وتحت تأثير ما نتج عنها من تخريب في المجتمع.

عزيزي القارئ، يمكنك الاطلاع على كامل المضمون بشرائك الكتاب وتحميله من الـ Gallery.