تقدير موقف دوري العدد 5

تقدير موقف دوري العدد 5
الخميس 27 فبراير, 2020

   العدد – 5                                                                                   25/2/2020

 

 

 

تقرير الحالة العربية

 

 

 

 

 

يرصد هذا التقرير الدوري تطوّر الأوضاع في المنطقة العربية، بقراءةٍ جيو-سياسية، ومن منظور "نظام المصلحة العربية المشتركة"، في سياق تزاحم أنظمة المصالح الإقليمية والدولية. وهو في عمله إنما يتّخذ من "مبادرة السلام العربية" (قمة بيروت 2002) و"إعلان الرياض" الصادر عن القمة العربية 2007 مرجعيةً أساسية في تقديره للأمور.. هذا مع التفاتةٍ خاصّة إلى الحالة اللبنانية، من منظور العيش المشترك واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بلبنان، لاسيما القرار 1701.

 

 

 

 

 

فلسطين بين وَعْدَين:

وعد بلفور 1917 – وعد ترامب 2020

(صفقة القرن)

 

 

 

في هذا العدد الخامس من "تقرير الحالة العربية"، نحاول القاء مزيد من الضوء على مشروع السلام الأميركي في المنطقة، والذي سُمّي بصفقة القرن.

 

 

  • في 2/11/1917 صدر وعد بلفور (عُرف بالإنكليزية Balfour Declaration) بصورة رسالة من وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور إلى زعيم الجالية اليهودية البريطانية مئير روتشيلد، ونشرت في الصحافة البريطانية صباح 9 تشرين الثاني بالنصّ التالي:

"عزيزي اللورد روتشيلد:

"يسعدني كثيراً أن أُنهي إليكم، نيابةً عن حكومة جلالة الملك، التصريح التالي، تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء: (إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكنْ مفهوماً بجلاء أنه لن يتمَّ شيءٌ من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتّع بها اليهود في أية دولة أخرى)".

  • من استمع إلى كلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري (القاهرة 1/2/2020)، ثم في مجلس الوزراء الفلسطيني (رام الله 3/2/2020)، رداً على خطة السلام الأميركية المعروفة بصفقة القرن، والتي كان الرئيس دونالد ترامب قد أعلنها رسمياً للتوّ من واشنطن وإلى جانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي مهللاً ومصفّقاً - من استمع إلى ذلك يَرْجَح لديه ظنٌّ قويّ بأن الرئيس عباس كان قد أعاد للتوّ قراءة النصّ الحرفي لوعد بلفور المشار إليه أعلاه، مسترجعاً في ذهنه تطورات قرن من الزمان، بحيث رأى أنّ صفقة القرن هذه ما هي إلا الصيغة الكاملة والعملانية لوعد بلفور بمقاصده النهائية، وفقاً لقراءة أميركية مستحدثة تجاوزت حتى القراءة البريطانية عام 1917، من حيث التطابق الكامل مع فرضيّات الحركة الصهيونية، وربما المزايدة عليها بنزق صبياني، إلى درجة أنّ بريطانيا الحالية - ومعها كل الوجدان الاوروبي الرازح تحت إثم اضطهاد اليهود - اعترضت على مشروع صفقة القرن بوصفه مخالفاً لكل مرجعيات الحلّ المُجمَع عليها دولياً في إطار الأمم المتّحدة. قال عباس: "الآن وصلنا إلى نهاية المطاف الذي بدأ عام 1917. ونذكّر العالم الذي نسي أشياء كثيرة، نذكّره بوعد بلفور الذي تحدّث عن الفلسطينيين الموجودين على هذه الأرض بوصفهم "جماعات غير يهودية" ليس لهم سوى حقوق مدنية وليسوا شعباً له حقٌّ وطني! ونذكّر العالم أيضاً بأن هرتزل، عندما زار فلسطين للمرة الأولى عام 1901 واكتشف أنّ فيها شعباً وليست أرضاً خاوية، قال مقولته الشهيرة: "علينا أن نمحو الفلسطينيين من فلسطين، لتصبح فلسطين أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"!... وإذْ عَرَض محمود عباس خرائط مقارنةً لديموغرافية فلسطين ما بين 1917 والمقتَرَح الاميركي الراهن، تبيَّن أنّ المعروض على الفلسطينيين لا يتجاوز العشرة بالمئة من أرضهم، في بُقَعٍ متفرّقة، تتّصل فيما بينها بجسور وأنفاق ودهاليز، فلا تصلح إلا للزواحف! وأضاف عباس: " ثم يأتينا السيد كوشنير قائلاً: لا تضيّعوا هذه الفرصة، على عادتكم في تضييع الفرص"!.
  • والواقع أن استذكار وعد بلفور بنصّه الأصلي من جانب الرئيس الفلسطيني لم يكن على سبيل "الشيء بالشيء يُذكر"، وإنما كان لتظهير حقيقة تاريخية معروفة لدى الباحثين، ولكنّها مهملة على صعيد المرويّات المتداولة شعبياً وفي الخطاب السياسي العربي، بحيث استقرّ في الوعي العام أن مسؤولية الخطيئة الأصليّة تقف عند بريطانيا. تلك الحقيقة - بحسب كلام عباس - هي أنّ "أميركا تبنّت وعد بلفور منذ البداية، وهي التي وضعته في ميثاق عصبة الأمم، وفي صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين.. وجاء الوقت لتنفيذه بالإخراج الاميركي"، لكأنّ قيام دولة اسرائيل عام 1948 لم يكن سوى مرحلةٍ على طريق حلم هرتزل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وإذْ يستحضر عباس في ذهنه كل معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناته شخصياً في التعامل مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، نراه يكرّر تلك "الندّابيّة" الفلسطينية الشهيرة: "رضينا بالبين، والبين ما رضي بينا" (تُقرأ بالعامية الفلسطينية)، أي رضينا بكل التنازلات إلى حدّ القبول بـ22% فقط من حقّنا - وهي مصيبةٌ كبرى بحدّ ذاتها - ولكنّ هذه المصيبة لم تَرْضَ بما قُسِمَ لها، وإنما هي مفتوحة الشهية بلا حدود، بفضل الرئيس ترامب ومعاونَيه كوشنير وغرينبلات. وقد ذهب الرئيس الفلسطيني بعيداً في هذه الاشارة الأخيرة، حين عبّر عن قناعة لديه بأن المعاونَين المذكورَين هما "العقل الصهيوني المدبّر" لفكرة صفقة القرن، فيما يبدو ترامب بمثابة "شاهد ما شَفْشِ حاجة". 
  • بالمقارنة بين وعد بلفور ومشروع صفقة القرن، يرى الباحثون والمؤرخون المنصفون، من فلسطينيين وغير فلسطينيين، أن السيد بلفور كان متأنّياً ومتحوّطاً في طرح الفكرة/ الوعد، رغم عواطفه الصهيونية، فأطلق وعده بلغةٍ حمّالةِ أوْجُهٍ وتأويلات، عسى تطوراتُ الزمن الآتي تضع النقاط على حروفه. بعباراتٍ أخرى، كان الرجل يرى بعينه أنّ هناك شعباً فلسطينياً على تلك الأرض - وإنْ كنّى عنه بعبارة "جماعات غير يهودية" - وأنّ لبريطانيا التزامات حيال العرب (وعودها للشريف حسين، ولا سيما من خلال مراسلات حسين- مكماهون)، وأنّ هناك أغلبية يهودية في بريطانيا والعالم راضيةٌ بانتمائها إلى بلدان إقامتها (الاتجاه الليبرالي الاندماجي). أمّا الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد صاغ "وعده" بلغة "الأمرُ لي"، وبذهنية العُظامي (ميغالومان) الذي لا يرى أحداً من حوله في هذا العالم، بما في ذلك القوانين والشرعيات الأممية، ذاهباً في حلم هرتزل إلى نهاياته غير المنطقية، ومتفضّلاً على الفلسطينيين بخمسين مليار دولار أميركي عداً ونقداً، لتحسين أماكن إقامتهم الموعودة في بُقَعٍ قليلة متناثرة على أرض فلسطين، بعد توطين الفائض عن تلك البُقع في بلدان الشّتات الفلسطيني، وبطبيعة الحال بعد جباية المليارات الخمسين من جيوب البترول العربي!.. هكذا بكل وضوح وصراحة ومباشرة، أي "على بَلاطة"، بحسب المثل الشعبي الفلسطيني.
  • وفي صدد التصوّر البريطاني الأولي، جاء في "الموسوعة الفلسطينية" ما يلي:

"لم يًثر نشر وعد بلفور انتباهاً كبيراً في حينه، وتصوّر الكثيرون أنه سرعان ما سيصبح في ذمّة النسيان بعد قليل، لأن الصهيونية كانت تبدو آنذاك حلماً من الاحلام. بيد أن التاريخ قدّر غير ذلك، وغدت هذه الوثيقة من أهمّ الوثائق التي صدرت، وربما كُتب عنها ما لم يُكتب عن أية وثيقة أخرى.

"ويرجع جلُّ النقاش الذي احتدم حولها إلى الغموض الذي اكتنف عباراتها. ولا عجب في ذلك بعد أن خرجت من أقلام طرفين احترفا الغموض والتمويه وتميّزا بهما تاريخياً: الجانب الإنكليزي والجانب الصهيوني. هذا إلى وقائع أخرى أملت على كاتب التصريح تحاشي الصراحة والتفصيل والتحديد. ومن هذه الوقائع تعارض التصريح مع التعهدات البريطانية السابقة للشريف حسين، وعدم وضوح رؤية انكلترا بالنسبة إلى مستقبل المنطقة، فضلاً عن تعارضه مع قناعات اليهود ممن يشعرون كلياً بالرضى بجنسيتهم ومواطنتهم في بلدان إقامتهم... كان الغرض الأول في ذهن بلفور إعطاء تصريح دعائي يخدم المجهود الحربي للحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وكانت المسألة بالنسبة إلى وايزمن هي الحصول على وعد يعطي اليهود اعترافاً دولياً بمكانتهم الخاصة في فلسطين، وكان كلا الطرفين يؤمن بأسلوب المرحلية في العمل السياسي.

"وفيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية صدرت تصريحات وتفسيرات مختلفة ومتناقضة لما يُقصد بعبارة "وطن قومي"، وما إذا كانت تشمل إقامة دولة يهودية. من ذلك ما ذهب إليه خبير وزارة الخارجية البريطانية، عام 1919 هارولد نيكلسن، بأنّ بلفور لم يفكّر بدولة مستقلّة يهودية، وإنما بملجأ ليهود أوروبا الشرقية. وفي حديث ونستون تشرشل لوجهاء فلسطين عام 1921 أشار إلى وجود فرق لغوي كبير بين إقامة "وطن قومي" كما ذكر الوعد وبين إقامة "الوطن القومي"، مما يستبعد إقامة حكومة يهودية تسيطر على العرب، بحسب قوله. كذلك نصح تشرشل العرب بالتمسك بعبارة "الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية" حمايةً لكيانهم. وحول هذه العبارة نشأ ما عُرف باسم "تساوي الالتزامات"، أي الالتزام بتشجيع الوطن القومي اليهودي والالتزام بحماية العرب. ولقد أمضى عددٌ من الساسة والإداريين الإنكليز السنوات اللاحقة يفتشون عبثاً عن طريق لتحقيق هذا التوازن والتوفيق بين الالتزامين. ورأى الجانب المناصر للعرب أن استحالة تحقيق الالتزام نحو الصهيونيين بدون الاخلال بالالتزام نحو العرب، واستحالة توفير الهجرة اليهودية بدون المساس بحقوق العرب المدنية والدينية، تقتضيان إلغاء وعد بلفور. أما الجانب الصهيوني فأعطى تفسيراً مخالفاً يقول: إن الأصل في وعد بلفور هو إقامة الوطن القومي، وإن حماية الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود شرطٌ فرعي، وفي حال التناقض يُحذف الفرع حفاظاً على الأصل..." (الموسوعة الفلسطينية، بإشراف أنيس صايغ، المجلّد الأول، ص 415 – 418).

  • القراءة الرسمية الفلسطينية لصفقة القرن رأت أنّ "الأصل" في هذه الصفقة المقترحة هو يهودية الدولة الإسرائيلية بكامل أوصافها الصهيونية (القدس عاصمة أبديّة وموحّدة لإسرائيل - الجولان إسرائيلي - "وادي عربة يُضمّ بمعظمه لإسرائيل - تُضمّ المستوطنات، ما استُحدث منها بعد العام 1967 وما هو قيد الاستحداث...). وهذا "الأصل" لم يعد مسألةً قابلةً للنقاش والتفاوض، بل أصبح أمراً متحقّقاً بواقع الاجراءات الإسرائيلية المعزّزة بالقرارات الأميركية الأخيرة. أما "الفرع"، بحسب الصفقة، أي الدولة الفلسطينية، فليس له في المشروع أيّةُ حيثية معتبرة، بل له قوامٌ كاريكاتوريّ (بُقع الزواحف)، مع اقتراح أن تكون "أبو ديس" (قرية صغيرة بجانب القدس الشرقية) عاصمةً للدولة الفلسطينية الافتراضية. بذلك يكون "الأصل" الإسرائيلي - اليهودي قد ألغى عملياً "الفرع" الفلسطيني. مع ذلك يصرّ الرئيس الأميركي وصهرُه المستشار كوشنير على الزّعم بأنّهما قد اتّبعا قاعدة "تساوي الالتزامات"! هذا بعد أن ألغى السيد ترامب كل المرجعيات الدولية ذات الصلة بالشأن الفلسطيني - الاسرائيلي، مستبدلاً بها مرجعيته الشخصية، على قاعدة "أنا القانون، والقانون أنا!". كيف لا وقد أطلق السيد الأميركي مؤخراً من جعبة استيهاماته (fantasmes) أرنباً ناطقاً بالعبرية الفُصحى يقول بأن العناية الإلهية قد اختارت دونالد ونَدَبته لتحقيق انتصارين عظيمين: الانتصار لإسرائيل التوراتية، والانتصار على الصين المتغوّلة اقتصادياً!... ولا نستبعد أن يكون دونالد في هذه الأيام يحدّثُ زوجته وابنته وصهره، في بعض الخلوات، عن فيروس "كورونا" بوصفه إحدى "علامات آخر الزمان"! 
  • لم يستذكر الرئيس الفلسطيني وعد بلفور فقط للمقارنة بين "الوعدين"، بل استذكر أيضاً وبصورة لافتة اتفاقيات أوسلو لعام 1993، وكان في هذه المسألة صادماً لكثيرين بوضوحه، لا بل متعمّداً الصدمة:

"كثيرٌ من الناس لم يقبلوا اتفاق أوسلو. والحقيقة أنه أهمّ اتفاق بيننا وبين الإسرائيليين. ولو قارناه بالمشروع المقدّم لنا اليوم لوجدناه يعطينا 92% من الأرض (أي أراضي الـ67)، والباقي للمفاوضات. أما مشروع اليوم فلا يعطينا إلا 8% من أراضي الضفة الغربية وغزّة، ثم يقسم هذه الثمانية بالمئة إلى ستة أقسام". والواقع أنّ الصدمة المتعمّدة في هذا الكلام هي في اتجاهين على الأقلّ: اتجاه الإدارة الأميركية صاحبة المشروع الحالي، واتجاه المعارضين للاتفاق الأول (أوسلو) من فلسطينيين وغير فلسطينيين. أما في اتجاه الإدارة الأميركية فقد شدّد الرئيس الفلسطيني، ربما للمرة الأولى منذ العام 1993، على أن الجانب الأميركي استاء كلّ الاستياء من اتفاق أوسلو، لأن هذا الاتفاق عُقد للمرة الأولى بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون استشارة أو إشراف الإدارة الأميركية، وقد يمكن القول "من وراء ظهرها": "لقد غابت اميركا عن حوارٍ فلسطيني- اسرائيلي استمر ثمانية أشهر دون أن تسمع به، باستثناء بعض التسريبات الإسرائيلية التي كنا ننفيها، وكان وزير الخارجية الاميركي آنذاك لا يعيرها اهتماماً، لدرجة أنه نسي تلك التسريبات!... ومنذ العام 1993 لم تعطنا اميركا شيئاً، إلى أن جاءوا اليوم بمشروع صفقة القرن!"، لكأنّ الإدارة الأميركية الحالية تحاول الثأر من اتفاق أوسلو. على أية حال هذا لا يعني أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التزمت الاتفاق، بل عمل اليمين الإسرائيلي المتطرف على إلغائه عملياً، منذ بادر إلى اغتيال إسحق رابين عام 1995، ثم إلى "اغتيال" ياسر عرفات عام 2004 (بحسب لجنة التحقيق والمتابعة الفلسطينية، رغم أن الجانب الفرنسي الذي حاول إنقاذ عرفات من إصابته التزم الصمت حتى الآن)، وصولاً إلى وضع محمود عباس على لائحة الاغتيال من جانب التطرُّف الإسرائيلي. ومن التصريحات الإسرائيلية اللافتة هذه الأيام (شباط الجاري 2020) قولُ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود أولمرت - وهو من المدافعين عن اتفاق أوسلو - بأن "محمود عباس يبقى الشريك الوحيد في مشروع السلام"، وهو تصريح يلاقي إعلان الرئيس الفلسطيني قبل بضع سنوات من على منبر الأمم المتحدة بأنه "لا بديل عن السلام إلا السلام".

  • من جهة ثانية يُعتبر إصرارُ عباس على تثمين فكرة أوسلو (فكرة التسوية التاريخية الأقرب إلى الواقعيّة المنصفة، بفضل شجاعتين: شجاعة فلسطينية بقيادة عرفات، وشجاعة إسرائيلية بقيادة رابين) صداماً مع منظومة الرفض الفلسطينية - القومجية العروبية - الإسلاموية الإيرانية (محور المقاومة بقيادة الراحل قاسم سليماني)، رغم أنّ فكرة التسوية هي الآن في أشدّ أحوالها حَرجاً مع تنصّل ترامب - نتنياهو من كل مرجعياتها (قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وحل الدولتين). فلقد قدّم هذا التنصّل لمنظومة الرفض المشار إليها ذريعةً قوية للقول بأن "البديل عن السلام هو العودة إلى الكفاح الشعبي المسلّح وإلى مشروع التحرير من البحر إلى النهر"، لدرجة أن رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي - في مؤتمر البرلمانيين العرب الأخير - رفع شعار "المقاومة ثم المقاومة ثم المقاومة، والقدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة الدولة الفلسطينية"، مستظهراً بتجربة حزب الله في لبنان والمنطقة، ومزايداً على الفلسطينيين أنفسهم، وكاد أن ينصح السلطة الفلسطينية بثلاثيته الذهبية (جيش وشعب ومقاومة).. فتأملْ يا أخَ العرب! من هنا نتوقّع لهذا التعارض المنهجي بين وجهتي النظر إلى الإشكالية (وجهة محمود عباس ووجهة محور المقاومة) أن يشكّل في قابل الأيام مدار تنازع فلسطيني- فلسطيني، على عادته السابقة وعلى مزيد من تلك العادة.. إلا إذا كان تحدّي "صفقة القرن" كافياً لمراجعةٍ في العمق لدى الطرف الفلسطيني في "محور المقاومة"، كي يؤهّل نفسه للانضواء في مشروع منظمة التحرير، غير المنفصل عن مبادرة السلام العربية ونظام المصلحة العربية المشتركة. وهذا الأمر يستوجب إلغاء الكيانية الانفصالية في غزّة منذ العام 2007. بَيْدَ أنّ احتمال مثل هذه المراجعة ضعيفٌ جداً مع دخول أردوغان والمال القطري بقوةٍ غير مسبوقة إلى ميادين المقاومات الميليشياوية المسلحة هنا وهناك وهنالك، وإنْ من باب مزاحمة النفوذ الايراني على جلد المنطقة العربية وليس من باب العداء الاستراتيجي ولقد بيّن كثيرٌ من الوقائع أن طريق التعاون سالكةٌ وممهّدة بين الأصوليتين الإسلامويتين (الإخوان المسلمين - حماس، وولاية الفقيه الشيعية بسرديّتها الايرانية - حزب الله)، بالإضافة إلى العلاقة الودّية المتواصلة بين طهران وإرث "القاعدة" بعد بن لادن. ومما يزيد في تمهيد هذه الطريق كًوْنُ الأصوليتين مأزومتين: الأولى بعد سقوط تجربتها المدوّي في مصر والسودان، والثانية بعد ترنُّحها المدوّي أيضاً جرّاءَ حرب العقوبات الاميركية على ايران هذا وإنْ كنا نرجو أن يخيب طنُّنا في شأن المراجعة المشار إليها والحال أنّ إحدى قواعد اللعبة المفضّلة من الجانبين (حماس والتطرّف الاسرائيلي) قد تمّ تفعيلها مباشرةً بعد إعلان صفقة القرن: إطلاق صواريخ حمساوية أو جهادية من غزة وحادثة شبه انتحارية في الداخل الاسرائيلي، أعقبهما تصريحٌ لناظر صفقة القرن جاريد كوشنير: "هناك مسؤولية تقع على عاتق محمود عباس في أعمال العنف الأخيرة في اسرائيل".. وهذا مما يذكّرنا بتلك اللعبة التي أودت بحياة ياسر عرفات، حيث كانت صواريخ حماس تنطلق من غزة في اتجاه اسرائيل، فتردّ هذه الأخيرة باقتحام الضفة الغربية ومحاصرة عرفات في مقرّ إقامته ("المقاطعة") حتى دخلت سبطانةُ الدبابة الاسرائيلية من شباك غرفته!.. ومن الإشارات الأخيرة الدالّة على تشجيع اسرائيل للانقسام الفلسطيني ما أعلنه حزب "اسرائيل بيتنا" عن زيارةٍ قام بها وفدٌ من الموساد الاسرائيلي إلى دولة قطر أوائل شباط/ فبراير الجاري "وطلب مبلغ 15 مليون دولار لدعم حماس"!
  • في ردّ القيادة الفلسطينية (بلسان محمود عباس) على خطة السلام الاميركية تبرز بوضوح جَدَليّةٌ شديدةُ التعقيد بين الرفض المطلق للصفقة المقترحة بفذلكتها ومندرجاتها، وبين ضرورةٍ مطلقة لتقدّم الجانب الفلسطيني بأطروحةٍ مقابلة أو بديلة؛ وذلك للتدليل على "أننا لسنا عدميين" بحسب عبارة عباس. فالعدميّة هي أن ترفض ولا شيء غير ذلك، ما يفتح الباب واسعاً لكل أنواع الرفض المفتوح بدوره على محاورّ وأجندات شتّى. ولعلّ المثال الأبرز على الرفض المقطور إلى محورٍ معيّن ظهر من خلال دعوة أمين عام حزب الله اللبناني إلى تشكيل "جبهة مقاومة إسلامية- عربية لإسقاط صفقة القرن". ومن بديهيات منطق الأمين العام أن تكون هذه الجبهة على النهج الايراني المعلوم، وبقيادةٍ ايرانية "هي المؤتمنة على فلسطين وحاملةُ رايتها، بعدما أسقط العرب والعربان هذه الراية من أيديهم عامدين متعمّدين، وبعدما تعبت قيادةُ منظمة التحرير الفلسطينية من الجهاد"، بحسب الكِرازة الايرانية على مدى السنوات الخوالي، وكان أمين عام حزب الله من أبرز الكارزين بهذه المعزوفة الايرانية. والحال كذلك ليس من المنطقي ولا المعقول أن يستجيب العرب لنداء التحالف مع ايران في مواجهة صفقة القرن من دون عودة الثقة بين الجانبين، بتراجُع ايران عن أنشطتها التوسعية في المنطقة العربية منذ أربعة قرون. وهذا الشرط العربي لا يعني أن المنطقة العربية رضخت لإملاءات الإدارة الاميركية في استبدال التناقض مع ايران بالتناقض مع اسرائيل (الباء تتبع المتروك لغوياً)، كما تزعم القيادة الايرانية والمتحدّثون باسم محورها في المنطقة. فالواقع أن ايران هي التي جعلت التناقض مع المصلحة العربية في رأس أولوياتها وخططها لتصدير ثورتها، أو بالأحرى لاستعادةِ مجدٍ امبراطوري لم يعد له مكانٌ في عالم اليوم. والواقع أيضاً أنّ الداخل الايراني المعترض على سياسة تصدير الثورة وما جرّته هذه السياسة من وقائع الحصار والإفقار هو الذي يذكّر قيادة الثورة الايرانية، قبل غيره، بشطط اختياراتها وتوجهاتها الجيوسياسية المتلفّعة بأيديولوجيا مذهبية لا مكانَ لها أيضاً إلا في العقول الفِتْنَوية.

 

  • الأطروحة المقابلة أو البديلة هي ما قدّمه الرئيس الفلسطيني في مؤتمر الجامعة العربية الأخير: "التمسّك بكامل حقوقنا حسب الشرعية الدولية؛ وهي قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، منذ القرارين 242 و338 إلى الآن. وعلى هذا الأساس نحن منفتحون على مفاوضات السلام، إنما برعاية "الرباعية الدولية" التي يمكن أن تُضاف إليها أية دولة أخرى من أوروبا أو العالم العربي، ولكننا لن نبقل بالرعاية الأحادية الأميركية، لأنها لم تكن وسيطاً نزيهاً.. بغير ذلك قلنا لهم: تفضّلوا واستلموا هديتكم التي أعطيتمونا إياها بموجب اتفاقيات أوسلو، وعلى اسرائيل أن تتحمّل عندئذ مسؤولياتها كاملةً كقوّة احتلال". بهذا الموقف نأى الجانب الفلسطيني بنفسه عن الصفقة، فنزع عنها صفتها التعريفية (الصفقة تحتاج إلى طرفين)، وبات صاحب المشروع (ترامب) كمن يعقد صفقة مع نفسه، أو في أحسن الأحوال كمن يعقد صفقة انتخابية مع نتنياهو ومِن خلفه الناخب الاميركي اليهودي، على تقدير معظم المراقبين وتوقعاتهم. ولكنّ هذا الموقف الفلسطيني كان في مَسيس الحاجة إلى أن يتقوّى بتموضع الموقفين العربي والاسلامي خلفه (العربة خلف الحصان). وهو ما نجح محمود عباس في تحقيقه خلال مؤتمري الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي، رغم الشكوك التي كانت تساوره في إمكانية تموضعهما على النحو المأمول، نظراً للدالّة الاميركية على كثير من الحكومات العربية والاسلامية: " لقد نشأت لدينا شكوكٌ جرّاء بعض التلميحات المرحّبة بالمبادرة الاميركية من جانب بعض العرب. وكنّا نتوقّع أن يحصل تعديلٌ من هنا او هناك على مشروع القرار الذي تقدّمنا به إلى مجلس الجامعة. ولكن للإنصاف والحقيقة، فإن جميع العرب وقفوا معنا وقفة رجلٍ واحد، وكلُّ ما تقدّمنا به اعتمد في بيان الجامعة دون تعديل أية كلمة.. وهذا شيء مشرّف بنظرنا.. وكذلك الامر في منظمة التعاون الاسلامي".

 

    • يمكن القول أن هذا الاصطفاف العربي والاسلامي خلف الموقف الفلسطيني الرسمي هو إنجازٌ في غاية الاهمية، بحدود الواقع الجيوسياسي القائم في المنطقة والعالم. هو انجازٌ بمعنى توفير "حزام أمانٍ" ضروري، لا بمعنى توفير الشرط الكافي لانتصار القضية الفلسطينية العادلة، كما حدّدها بيان الجامعة العربية (1/2/2020) وفق اقتراح القيادة الفلسطينية من دون أي تعديل. وتقديرُنا أنّ الجانب الفلسطيني، حين ذهب إلى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي، لم يكن يطلب منهما أكثر من ذلك في هذه المرحلة، نظراً لمفارقة أشرنا إليها في تقريرنا السابق بالقول: "مفارقةُ الموضوع الفلسطيني أنه ذو مكانةٍ حاسمة في كلّيات الصراع القائم في المنطقة ونهائياته [ باعتراف الرئيس الاميركي السابق أوباما في القاهرة 2009 كما باعتراف البابا بنديكتوس السادس عشر في إرشاده الرسولي من أجل سلام الشرق الأوسط - بيروت 2012]، ولكنّه اليوم (أي الموضوع الفلسطيني) هامشيُّ التأثير [ أو بالأحرى مغيَّب التأثير] في مجريات الصراع، سواءٌ تلك البعيدة نسبياً عن فلسطين في الخليج والعراق واليمن والسودان وليبيا، أو تلك القريبة جداً في سوريا ولبنان!.. ومردُّ ذلك في تقديرنا إلى ثلاث وقائع كبرى: انقلابٌ كامل في الموقف الاميركي على مشروع السلام العادل بمرجعياته المُجمع عليها دولياً [ ويتضاعف تأثير هذا الانقلاب مع تحكُّم الإدارة الاميركية بأوراق اللعبة في المنطقة والعالم أكثر من أي وقتٍ مضى]؛ انشغال البلدان العربية بمشكلاتها الذاتية التي تتراوح بين حدّ الأزمة السياسية- الاقتصادية- الاجتماعية الشديدة وحَدّ الحرب الداخلية الطاحنة [ على إيقاع تدخّلاتٍ إقليمية ودولية لم يسبق لها مثيل حتى في مراحل الحروب العالمية السابقة، أكانت ساخنةً أو باردة- في تصريخ أخير لأمين عام الأمم المتحدة أن الحربَ في سوريا تفوّقت بدمارها على الحرب العالمية الثانية في أوروبا]؛ ضررٌ كبير بالمسألة الفلسطينية ألحقَته استراتيجيةُ التوسّع الايراني في المنطقة العربية بعد الثورة الخمينية. وهذه الواقعة الثالثة تنطوي بدورها على مفارقة: إذْ تتمّ الإساءة الايرانية إلى فلسطين تحت شعار "تلبية نداء فلسطين بالمقاومات الميليشياوية والممانعة، فيما لم تُنتج تلك المقاومات، على الطريقة الايرانية وبقيادتها، سوى حروبٍ أهلية في بعض المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع الفلسطيني".
  •         يُذكر أنّ الاصطفاف العربي خلف الموقف الفلسطيني في اجتماع مجلس الجامعة العربية الأخير (1/2/2020) هو للمرة الثالثة على التوالي بعد قمة القدس بمدينة الظهران السعودية (2018) وقمة تونس (2019). وقد ورد هذا            الاصطفاف بالصيغة التي طلبتها القيادة الفلسطينية في البند الثامن من بيان الجامعة الأخير: "التأكيد على الدعم الكامل لنضال الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية، وعلى رأسها فخامة الرئيس محمود عباس رئيس دولة فلسطين، في مواجهة          هذه الصفقة وأي صفقةٍ تقوّض حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرُّف، وتهدف لفرض وقائع مخالفة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية". هذا المقدار من الدعم العربي "المبدئي"- وقد يُقال "الشفوي"-          يساعد القيادة الفلسطينية على النجاة من طوق الاستفراد في هذه المرحلة، كما يساعد الشعب الفلسطيني على "الصمود في ممرّ الماراثون"، بحسب عبارة شهير لياسر عرفات، ولكنّه بالتأكيد غير كافٍ، لأن فاعليّته رهنٌ بترجمته عملياً.            والمثال الأبرز على تخلّف الموقف العربي عن الترجمة العملية هو ما آلت إليه مبادرة السلام العربية 2002 من جمود، رغم شجاعتها المبدئية وصحّتها الرؤيوية، فيما كان الطرف الآخر (الاسرائيلي) يراكم على مدى 18 سنة من تلك          المبادرة و"يفرض وقائعَ مخالفة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية"، بحيث ألغى هذا الطرف - بمساعدة أميركية متواصلة، وبجرعات زائدة من المساعدة مع إدارة الرئيس ترامب - ما يمكن التفاوض عليه!          ومما لا شكّ فيه أن القُصور العربي عن ترجمة تعهّداته الفلسطينية إنما يعود بصورة أساسية إلى قصور "العمل العربي المشترك".

قد يكون الموقفان الفلسطيني والعربي حتى الآن، يؤازرهما خَجَلٌ دولي عام من نقض الشرائع الدولية، كافيين لتعطيل الصفقة، رغم الاعلان عنها رسمياً. وعليه نتوقّع تجميد الصفقة بتطلّعاتها الاستراتيجية، واكتفاء الجانبين الاسرائيلي والاميركي بتطلّعاتهما الانتخابية المقبلة. إلى ما بعد الانتخابات يبقى الموقف الفلسطيني في "ممر الماراثون"، بانتظار نجدةٍ تأتيه من صحوةٍ استثنائية للعمل العربي المشترك. وهذه الصحوة ليس من المتوقّع أن تأتي- إذا أتت- إلا بمبادرة مصرية سعودية تتجاوز المستوى المتواضع من التناغم الحالي. بيد أنّ الصمود الفلسطيني في الممرّ الصعب يحتاج بدوره إلى تصورٍ "وعدّة عمل"، على القيادة الفلسطينية أن توفّرها في ساحاتها، ولا سيما على صعيد وحدة السلوك الفلسطيني المقاوم- إذْ إن وحدة الرفض الشعاراتي حاصلة- وإلغاء الانقسام المتمادي منذ العام 2007. بهذا الخصوص، وفيما نحرّر هذا العدد من "تقرير الحالة العربية"، أتتنا الغارة الاسرائيلية على مواقع "حركة الجهاد الاسلامي" بالقرب من دمشق، وردّ الحركة الصاروخي من دمشق وغزة، ما يشير بمقدارٍ من الوضوح إلى غزلٍ اسرائيلي- ايراني بالذخيرة الحيّة!